التأصيل الشرعي لمبدأ التحكيم كوسيلة من وسائل حل النزاعات، والعلاقة بينه وبين القضاء

العلاقة بين مبادئ القانون الدولي في التحكيم ومبادئ التحكيم في الشريعة الإسلامية:

·       يدين العالم الحديث للجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي بالفضل في إصدار قواعد نموذجية للتحكيم، والتي ساهمت في جعل لغة التحكيم عالمية.

·       وأمام هذا الإنجاز الدولي نستذكر عظمة الدين الإسلامي الذي سبق هذه المحاولات الدولية منذ ما يزيد على (ألف وأربعمائة سنة) في إقرار مبادئ العدالة والحث عليها وجعلها واجبةَ الاتباع في حل قضايا الناس، وحماها بالوازع الديني.

·       واسمحوا لي أن أنقل لكم مقارنةً جميلة -بتصرف- مما ذكره الزميل د . ناصر الغنيم في كتابه الوجيز  في شرح نظام التحكيم -موضحاً أن قواعد اليونسترال للتحكيم- لم تبتكر جديداً عما جاء به الإسلام، فما ورد في معظمها هو مما جاءت به الشريعة الإسلامية.

·       ونشير  إلى أبرز هذه القواعد وأعظمها شأناً وأثرا مقارنةً بأحكام الشريعة الإسلامية فيما يلي:

1-     مبدأ الحرية في اللجوء إلى التحكيم بدلا من القضاء، وهذا مقررٌ في الشريعة كما ذكرنا من الأدلة السابقة من الكتاب والسنة المطهرة وإجماع الفقهاء، فقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحكيم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في أمر اليهود من بني قريظة، حينما رضوا بالنزول إلى حكمه، وأقر هانئ بن يزيد حكماً في قومه، وقال: ما أحسن هذا.

2-     مبدأ سلطان الإرادة في اختيار المحكم وإجراءات التحكيم، حيث أقرت المادتان الرابعة والخامسة (4-5) من قانون اليونسترال هذا المبدأ، وكذلك في الشريعة الإسلامية: حرية اختيار المحكم في قوله تعالى: (فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) الآية وكذلك ما ورد من أدلة سابقة.

3-     مبدأ المساواة بين الخصوم في النزاع التحكيمي، أقرت اليونسترال هذا المبدأ في المادة السابعة عشرة (17) ويقصد منه: منح الخصوم فرصة متساوية لإبداء دفاعهم وطلباتهم، و في الشريعة الإسلامية نجد أن المساواة في القضاء الإسلامي غاية تسعى إلى تحقيقها، والله تعالى يقول (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الآية النحل 90]، وفي رسالة عمر بن الخطاب المشهورة لأبي موسى الاشعري -رضي الله عنهما-:  (آس بين الناس في وجهك ومجلسك وقضائك ... ) وعناية الشريعة واضحة في موضوع وجوب العدالة في التقاضي، وهذا في التحكيم أيضاً باعتباره قضاء بين طرفين في خصومة.

4-     مبدأ حق الدفاع في الخصومة التحكيمية، المادة الحادية والعشرون (21) من قانون اليونسترال، وفي الشريعة من قبل ما يدل على حفظ هذا الحق في الدفاع في الخصومة وقد ورد في رسالة عمر بن الخطاب لأبي موسى الاشعري رضى الله عنهما (واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينةً أجلا ينتهي إليه، فإن ذلك أبلغ في العذر ... )

5-    مبدأ حق المواجهة في الخصومة التحكيمية، ورد ذلك في المادتين السابعة عشرة والتاسعة والعشرين  ( 017-29)  من قانون اليونسترال، وقد ركزت الشريعة الإسلامية على هذا الحق وفي القرآن في قصة داود مشهدٌ يوضح ذلك حيث نجد أن المدعي مارس حقه في العرض لدعواه وقضى له دون سماع قول الآخر مما أوقعه في الذنب (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ...) الآيات 21- 26- سورة ص، وفي الحديث لما ولى رسول صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب على اليمن قال له /  فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر ... ) الحديث في سنن الترمذي

6-     مبدأ الأخذ بالبرهان في الخصومة التحكيمية،  المادة السابعة والعشرون (27) من قانون اليونسترال،  وفي الشريعة الإسلامية نجد أن الإثبات هو معيار الحق فكل ادعاء محتاج إلى دليل (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [البقرة: ١١١] ،(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) [سورة النور: ١٣]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ) والبينة في الشريعة الإسلامي كل ما يُبين الحق ويظهره، وقد اعتنتْ الشريعة بوسائل الإثبات وطرقه كما هو معلوم.

7-     مبدأ التسوية الودية للنزاع التحكيمي، المادة السادسة والثلاثون (36) من قانون اليونسترال، وقد جاءت الشريعة بالحث على الصلح (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء: ١٢٨] وفي الحديث (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراماً)

8-     مبدأ تعليل الحكم التحكيمي، المادة الرابعة والثلاثون (34)، وهو تسبيب الأحكام، وقد صدرت الأحكام في قضائنا الإسلامي مسببة، فقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بحضانة ابنة حمزة لخالتها وقال (الخالة بمنزلة الأم) والفقهاء اختلفوا بين وجوب التسبيب للحكم واستحبابه، وبالوجوب قال بعض الحنفية والمالكية، وبالاستحباب قال الشافعية.

وكل هذه المبادئ وغيرها مقررة في الشريعة الإسلامية، ومحل اعتبار  في التقاضي والتحكيم.

الفرق بين القضاء والتحكيم

 التحكيم وإن كان نوعا من القضاء وجزءًا منه، إلا أن بينه وبين القضاء فروقا متعددة، وهذه الفروق لا تُخرج التحكيم عن دائرة القضاء لكنها توضح خصوصية التحكيم في المتخاصمين لأنه يكتسب الولاية منهم، وقد توسع جملة من الفقهاء في إيراد هذه الفروق وإيضاحها وأظهر هذه الفروق ما يلي:

1-أن الولاية للمحكم في التحكيم صادرة من المتخاصمين، أما في القضاء فإن ولاية القاضي صادرة من ولي الأمر.

2-أن التحكيم لابد فيه من رضا المتحاكِمَين بالمُحَكَّمين، وأما القضاء فإنه لا يشترط عند التحاكم إليه رضاهما به.

3-أن المحكم ولايته قاصرة على القضية التي تم التحاكم والاتفاق على التحاكم بها عنده، ولا يتعداها إلى غيرها فولايته تنتهي بالحكم في هذه القضية، وأما القاضي فإن له النظر  في جميع ما ولي عليه من قبل الإمام.

4-أن القضاء يشمل جميع الحقوق والقضايا، وأما التحكيم فلا يدخل في القضايا التي لا يجوز فيها الصلح كقضايا الحدود والقصاص واللعان والنكاح ونحوها على خلاف فقهي في ذلك. وقد صدر عن مَجْمَع الفقه الإسلامي القرار المتضمن عدم جواز ذلك، ونصه: (لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى كالحدود، ولا فيما استلزم الحكم فيه إثبات حكم ٍ أو نفيه بالنّسبة لغير المتحاكمين ممن لا ولاية للحَكَم عليه كاللعان لتعلّق حقّ الولد به، ولا فيما ينفرد القضاء دون غيره بالنّظر فيه).

5-أن القضاء تجري أحكامه على القاصر عقلاً وسناً ومن في حكمهما، وأما التحكيم فلا تجري أحكامه عليهم دون إجازة القاضي له.

6-أن القضاء له ولاية مكانية خاصة يتقيد بها وأما التحكيم فإنه لا يتقيد بمكان معين بل يحكم في جميع القضايا التي يتراضى عليها المتحاكمون ولو كانوا في غير ولايته المكانية.

7-أن ولاية القضاء أعلى رتبةً من ولاية التحكيم.

8-أن المحكم إذا قضى في مسألة اجتهادية، ثم رفع أمر حكمه الى محكم آخر أو قاض، أمضاه إن وافق مايراه في المسألة، بخلاف القاضي، فحكمه يرفع الخلاف في المسألة.

9-أن المحكم لا يتقيد بالاختصاص المكاني، بل يحكِّم في أي قضية يرضاه الطرفان حكَماً فيها، ولو كان المدعى عليه لا يقيم في بلد التحكيم.

 أهم مميزات التحكيم

1-     أنه مُعِينٌ لمرفق القضاء بالتخفيف عنه؛ مما يجعل القضاةَ يتفرغون للفصل في النزاعات.

2-     السرعة في الإنجاز، حيث إن إجراءات التقاضي تستغرق وقتاً طويلاً بسبب كثرة القضايا، وتعدّد إجراءات التقاضي وقلة القضاة .

3-     السرية التامة؛ حيث إن الأصل في الجلسات القضائية هو العلانية، بخلاف التحكيم.

4-     حرية اختيار المحكمين.

5-     أن فيه توسعة على الناس بعدم حضورهم مجالس القضاء.

6-     المرونة في الإجراءات.

7-     المرونة في تحديد مكان التحكيم ومواعيد الجلسات.

 توصيف التحكيم والطبيعة القانونية للتحكيم ومدى ارتباطها بالقضاء.

هل يعد التحكيم -سواء كان كلياً أو جزئياً-، قضاءً؟ أو وكالة؟ أو يجمع بينهما؟
 اختلف العلماء في ذلك على أقوال:

القول الأول: أنه من باب الولاية القضائية، وهو قول المالكية وبعض الشافعية وقول الحنابلة، وعللوا لذلك بأن المحكم يحكم بين المتخاصمين؛ فهو قضاء.

القول الثاني: أن التحكيم من باب الوكالة، وهو قول المالكية.

القول الثالث: أن التحكيم بمنزلة الصلح، فهو صلح، وبذلك قال الحنفية.

وعللوا بأن التحكيم إنما صار حُكْماً بتراضي الطرفين.

ولعل الراجح القول الأول؛ لقوة ما استدلوا به.

الطبيعة القانونية للتحكيم، ومدى ارتباطه بالقضاء:

ثمَّ خلاف عميق وقديم بين المهتمين بالتحكيم حول العلاقة القانونية للتحكيم ومدى ارتباطه بالقضاء، وقد اختلفوا إلى اتجاهات متعددة، بين إفراط وتفريط، ويمكن عزو السبب إلى عدة اتجاهات، كما يلي:

الاتجاه الأول: الطبيعة العَقْدية للتحكيم باعتبارها ناشئة من اتفاق المحكمين، وأن التحكيم يبدأ باتفاقهما -سواء كان في صورة شرط أو مشارطة-، وقد اعتبر البعض أن هذه العلاقة هي التي تحدد ارتباط التحكيم بالقضاء.

ومن الانتقادات لهذا التوجه: أنه يُخل بواحدة من أهم ضمانات التقاضي، وهي: ضمان الحيدة والاستقلال، حيث إن هذا الاتجاه جعل المحَكَّم بمثابة الوكيل عمن اختاره، والوكيل كما هو معروف يعمل لحساب موكله، ويسعى لمصلحته -في الغالب- حتى وإن كان على حساب العدالة.

وهذا الاتجاه أصبح مهجورا؛ لعدم قدرته على كفالة ضمانات التقاضي.

الاتجاه الثاني: ينظر  إلى الطبيعة القضائية للتحكيم، فهو يغلِّب الطبيعة القضائية على التحكيم، بل ويسمونه قضاءً استثنائياً قوامه الخروج على طرق التقاضي العادية وما تكفله من ضمانات، ويستند أنصار هذا الاتجاه لتفسير الطبيعة القضائية للتحكيم إلى وحدة الوظيفة، أو الغاية بين المحكم وعمل القاضي، والتي تتمثل في الفصل في النزاع وفقا لقواعد القانون الذي يعترف بالتحكيم، ويجعل الحكم ملزما، ويزوده بالقوة التنفيذية؛ لذلك يعد المحكم قاضياً.

ما هو موقف نظام التحكيم السعودي؟

أخذ نظام التحكيم السعودي بالاتجاه الثاني، حيث نص صراحةً على احترام ضمانات التقاضي من حيث المبدأ، بحيث يضمن المواجهةَ في الإجراءات وتمكينَ كلِ طرف بالعلم بإجراءات الدعوى، والاطلاع على الأوراق والمستندات، ومنْحَه الفرصةَ الكافية لتقديم دفوعه وحججه، وكذلك ما نصت عليه مواد النظام من الإلزام بأن يكون الحكم التحكيمي مسبباً

والله الموفق،،،